• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الشعور بالخجل وعدم الثقة بالنفس

أسرة

الشعور بالخجل وعدم الثقة بالنفس

    إنّني كثير الخجل حتّى إنّني أتعرّق عند الكلام مع الناس ويرتجف لساني.. بل إنّني أتعرّق بمجرد نظر أحدهم إليّ، فما الحل للمشكلة؟

الأخ الكريم السلام عليكم ورحمة وبركاته تحية طيبة وبعد.. الخجل يعود إلى أسباب كثيرة، ولكن أهمها العامل البيئي، أي الظروف التي نشأ فيها الإنسان، والتي تحيط به من أسرة ومدرسة، وحتى مجتمع، فإنّ الطفل الذي ينشأ في بيت فيه أجواء تربوية صارمة ومحاسبة شديدة قد يفقد الثقة بنفسه ويحسّ بأنّ كل الناس يترصّدونه ويؤاخذونه، فيشعر بالخجل. وقد يأخذ الطفل الخجل عن والديه، كلاهما، أو أحدهما، فنرى أولاداً خجلين ينشأون في أسرة متسامحة ولكن لأبٍ خجول عانى تربية قاسية في طفولته. وتأتي بعض الأجواء المدرسية لتزيد الشعور بالخجل والإحباط عند الأطفال، عندما تكون المعاملة قاسية، أو يتعرّض الأطفال للإهانة والتحقير أمام الآخرين. وهناك بيئات اجتماعية تعمِّق الشعور بالدونية والإحباط وبالتالي الخجل، خصوصاً عند الإنسان الذي لديه ضعف في جزء من شخصيته أو بعض النقص، في بدنه، فنرى مثلاً في الكثير من مجتمعاتنا معاملة ذوي الخلل البدني بالنظرات الساخرة وحتى التنكيل، ومعاملة الذي يعاني من نقص في سمعه أو خلل في نطقه بالإستهزاء في الوقت الذي نجد في بعض المجتمعات المتقدمة معاملة إنسانية راقية للمعلولين، وكبار السن، والمرضى، لغرض إشعارهم بالإحترام وإزالة شعورهم بالنقص، وتقديم المساعدة لهم بالوسائل الخاصة، وتنظيم المباني والشوارع لتسهيل مرورهم وتهيئة الحمامات الخاصة بهم وغير ذلك من الخدمات. وكل هذه المعاملة السيِّئة في مجتمعاتنا تتنافى مع قيم الإسلام العظيمة التي تؤكد على احترام الإنسان وإعزازه، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70). على أيّة حال، يجب عليك أيُّها الأخ الكريم، أن تبدأ بنفسك انطلاقاً من هذه الآية الكريمة، وغيرها من آيات القرآن، وكل التعاليم السماوية لسائر الأديان، لتعرف نفسك أوّلاً، وتعطيها قيمتها الحقيقية ثانياً، ففي الأثر: "مَن عرف نفسه فقد عرف ربّه"، فأنت عبد الله، الذي اختاره الله تعالى خليفة له في أرضه، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ...) (البقرة/ 30-32). وبذا كرّم الله تعالى الإنسان وفضّله – بما أعطاه من علم – على الملائكة، لأنّه أراد منه أن يكون خليفة له، يحمل أسماء الله، ويجسِّد قيم الخير والجمال التي كمالها عند الله، كما جاء في الأثر: "تخلّقوا بأخلاق الله". فأنت ونحن، من أبناء آدم، خلق الله المميّزين بالعقل، والمكرّمين بالعلم، والمحظوظين بلطف الله (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) (الشورى/ 19). وكل شيء يرجع إلى أصله ونسبه، وكلّنا نرجع إلى آدم، وآدم عبد الله المكرّم، كما إنّه من تراب، فلا ينبغي أن نشعر بأن غيرنا أفضل منّا، إلا بعلمه وتقواه، كما قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). أمّا سائر البشر، مَن غاب منهم ومَن حضر، فلا نشعر في مقابلهم بالحقارة والذل، لأنّهم أكثر منّا سلطاناً أو مالاً، أو جاهاً، أو حسباً، أونسباً، لأنّه كما جاء في الحديث الشريف: "يدخل النار ولو كان سيداً قرشياً ويدخل الجنّة ولو كان عبداً حبشياً". فعزتنا بالله تعالى، ذلك (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8). وفي الحديث أيضاً: "إنّ الله لا يرضى لعبده الذلّ"، "ولا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه". من هذا المنطلق، ارفع رأسك وتمسك بحبل الله، واعتز بعبوديته، ولا تنظر إلى نفسك نظرة احتقار واستضعاف، كما لا تنظر لغيرك نظرة إنبهار وإعجاب تشعر معها بالضعف والذل. واعلم بأنّك كلما اقتربت من الله تعالى وابتعدت عن معصيته واكتسبت من العلم وفضائل الأخلاق وزدت من أعمالك الصالحة، كلما كنت أكثر عزة وأعلى رتبة، كما كان موسى الفقير أقوى وأعزّ من فرعون وأعوانه. والأمر الآخر: خذ ورقة وقلماً واكتب فيها على الجهة اليمنى ما مَنّ الله عليك من نعم وما أعطاك من مواهب، من أعضاء سالمة، وعقل وفكر، ومنطق ولسان.. إلخ، واستذكرها ودوِّنها، وستجد أنها لن تنتهي، لأنّ كل شيء في الوجود قد سخّره الله لك، من أرض وسماء، وماء وهواء، ونهر وبحر، وبرٍّ وشجر، وسهل وجبل، قال جلّ شأنه: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم/ 34). وفي الجهة اليسرى من الصفحات دوِّن نقاط ضعفك ومجالات حرمانك، وستجدها محدودة، خصوصاً إذا ما تذكّرت ما فضّلك الله به على غيرك ممّن حرموا من بعض النعم، أو ابتلوا ببعض النواقص. وعلى أيّة حال، ستجد أنّ نعم الله عليك لا تنتهي، وما حرمت منه محدود ومعدود، ويمكنك أن تحصل عليه ببعض الجد وبذل الجهد، مستعيناً بالله تعالى وبما وهبك من إمكانات وطاقات ومنحك من فهم وعلم. إذن أعد النظر في نفسك واستعِد الثقة بها، وابدأ بإنصاف نفسك أوّلاً، فلا تحقِّرها ولا تستضعفها، واعطها مكانتها الكريمة، واعمل على رفعتها، من خلال إكمال موارد نقصها، ورفع مواضع ضعفها. ومعرفة النفس وإكرامها واستعادة الثقة بالنفس أولى الخطوات على طريق رفع الشعور بالضعف والوهن، ومن ثمّ دفع الخجل واكتساب روح الإقدام على العمل. ثانياً: ابتعد عن كل مَن تشعر بأنّه يهينك ويستضعفك، وابتعد عن كل جو تشعر فيه بالسخرية والإستهزاء والإيذاء، حتى لو كان ذلك الفرد من أقربائك، فعالجه أوّلاً بتقليل الإحتكاك به، وزيادة الحشمة والإحترام بينك وبينه، واطلب منه بعد ذلك أن لا يؤذيك بلسانه أو يهينك بعمله، فإن لم تجد في ذلك فائدة، فابتعد عنه وقلل تواجدك معه. نعم، لا تقطع رحمك وصلة والديك، وعاملهم بالحسنى، ولكن إذا واجهوك بالتحقير والإهانة، فسدّ أذنيك وابتعد قليلاً حتى تشعرهم بعدم ارتياحك "لأنّ الله لا يرضي لعبده الذل". وابتعد كذلك عن أجواء المعصية ونوادي السفهاء التي يعمل فيها المنكر، لأنّ الإنسان في تلك الأجواء يذلّ نفسه ويخرجها من عزّ طاعة ربّه إلى ذلِّ اتباع الهوى والشيطان ومرافقة السفلة من الناس، ولذا يجب الإبتعاد عن أصدقاء السوء، الذين لا كرامة برفقتهم ولا إخلاص في صداقتهم. واختر لنفسك الأجواء المريحة التي تأمن بها والمجتمعات النظيفة التي تسكن إليها، وتزيد من احترامك لنفسك واحترام الآخرين لك، كالمساجد وبيوت الله، والنوادي العلمية والثقافية، والمؤسسات الخيرية.. إلخ. وكذلك تردد على أقاربك الذين تشعر باحترامهم وترتاح لهم، وزد من علاقتك مع أصدقائك المحترمين ممّن يحفظون كرامتهم وكرامة غيرهم. ثالثاً: أقصر طريق لمعالجة الخجل هو مواجهته، ويختصر ذلك في أمرين: - الأوّل: أن تهمل نظر الناس إليك فهم في شغل شاغل، ولديهم من الهموم والمشاكل ما يجعلهم في غنى عن إحصاء هفواتك، أو ملاحقة أنفاسك، فمن اليوم تصرّف وكأنّ الناس في غفلة أو نيام، بل انتقل إلى الخطوة الأخرى، انظر إلى الناس وتابع حركاتهم ووزِّع نظراتك عليهم، وستجد أنّهم ليسوا بأقوى منك ولا يشكِّلون لك إحراجاً. - الثاني: كلما شعرت بخجل من أمر – ما لم يكن محرّماً – فأقدم عليه، أي سر في الاتجاه المعاكس لما توسوس به نفسك، فإذا كنت تخجل من شخص فأقدم عليه بالسلام وكلِّمه، وإذا كنت تخشى المرور أمام محل أو شخص فمر عليه يومياً جيئة وذهاباً، وهكذا إذا كنت تخشى المطر فقف تحته حتى تبتل وستجد أن لا شيء مهم سيحدث. وهذه طريقة حددها الإمام علي بقوله: "إذا هبت شيئاً فَقَع فيه"، والدراسات الحديثة تؤيد ذلك. إذن اكتب ما تخجل منه وتخشاه وابدأ بفتح الحصون واحداً بعد آخر، يوماً بعد يوم، وستجد أن لا شيء يقف أمام إرادتك، وأنّ الآخرين ليسوا جميعاً بأفضل منك، وأن منهم مَن يستحق الخجل ولا يخجل، فلماذا إذن تخجل من أمر عادي والناس في ذلك سواء.. إذن من اليوم ادفع القلق وابدأ الحياة وقل: وداعاً أيُّها الخجل، واقتحم بنفسك المواقع وبادر بالهجوم بدل الدفاع، وقد قيل: الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، وستجد نفسك متألقاً وموفقاً بإذن الله.

ارسال التعليق

Top